تحميل كتاب المتوسط والعالم المتوسطي، لفرنان بروديل بصيغة إلكترونية بدف pdf
معلومات توثيقية
مقتطف من الكتاب
في أثناء سيره قدما لإجابة عن هذين السؤالين اكتشف بروديل أنه يسير في اتجاه قطيعة مع المقاربة التاريخية التي كانت سائدة في النصف الأول من هذا القرن. فالانتقال من تتبع سياسة فيليب الثاني المتوسطية إلى البحث في الأصول الفيزيائية العميقة لتلك السياسة لم يكن مجرد استبدال الموضوع بآخر، بقدر ماكان يحمل على التحرر من قيود التأريخ التقليدي وعلى إرساء أسس جديدة للبحث التاريخي. هذا فضلا عن أن ذلك الانتقال فتح أمام نظرة المؤرخ أفقا كان مغفلا على نحو تام قبله. لماذا لا تتصدى المعرفة التاريخية لدراسة حيز بحري؟ هذا السؤال الأخير حمل بروديل على الشروع في تلمس شخصية متوسطية شديدة التركيب والتعقيد وتتداخل فيها حياة اليابسة بحياة البحر التي هي من القوة بحيث كانت تجذب اليابسة إليها وتتيح انتقال البشر وتبادل السلع وتداخل الحضارات وتمازجها، على نحو لا يمكن معه الفصل بين تاريخ البحر وتاريخ اليابسة التي تحتضنه. هكذا يمكن للمؤرخ أن يكشف عن الفيزياء العميقة للتاريخ الذي يرينا فينيقيا في شمال إفريقيا وإسبانيا ورما في لبنان واليونان في مصر والإسلام في كل من الأندلس والبلقان... فالمتوسط التاريخ، أي متوسط بروديل ليس متوسط الجغرافيين أو الجيولوجيين، ولا يمكن استشراف حدوده المتحركة المتهاوجة ولا السيرورات التي تعتمل فيه من دون إعادة رسم النسيج الفني والمعقد من العلائق التي تجمع الزمان إلى المكان إلى التاريخ، أي من دون بناء فلسفة جديدة للتاريخ.
كان التخلي عن افتراض قطيعة بين الماضي والحاضر القاعدة الأساس التي أرسى عليها بروديل فلسفته الجديدة، فالتأريخ التقليدي بافتراضه هذه القطيعة، كان يصبوا إلى بعث الماضي وإحيائه. وما كان يستحوذ على اهتمام المؤرخ مما فات وإنقضى هو ما يتغير ويتبدل، أي الأحداث الفريدة أو المفارقة التي كان يتم إدراجها في سلسلة متعاقبة ومتتالية، وفي مجرى زمني خيطي يسير قدما في اتجاه واحد ووحيد، والحقيقة أن ما كان هذا السرد الحدثي ينتزعه من لجة الماضي وظلامه هو الحياة السياسية التي كانت تدور في أورقة ولم يكن الفعل فيها يتخطى الأفراد من حكام وزعماء وملوك.
Lien de téléchargement en PDF
تعليقات
إرسال تعليق