معلومات عن الكتاب :
عنوان الكتاب : فلسفة التاريخ النقدية؛ بحث في النظرية الالمانية للتاريخ.
المؤلف : ريمون آرون.
ترجمة : حافظ الجمالي.
الناشر : وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية.
عدد الصفحات: 348.
حجم الكتاب: 7.50 ميجا بايت.
صيغة الكتاب : PDFelement (البرامج المقترحة nitro pro, expert pdf).
مقتطف من الكتاب :
"نقد العقل التاريخي (ديلتاي)
لئن عرف كل نقد بنفيه دوغماتيه سابقة، فإن بالإمكان القول : إن تفكير ديلتاي نقدي جوهرياً، إنه يرى أن ميتافيزياء أرسطو وديكارت أو المثالية الألمانية جزء من ماض انتهى إلى غير رجعة. أما فلسفة التاريخ التي أخذ بها بوسويه الفرنسي أو هيجل الألماني، فإنها مدينة (مدانة) كما أدينت عقائد الإيمان المسيحي. ولن يصل الإنسان أبداً إلى الإحاطة بمجموعة الكون (العالم) ، عن طريق شبكة من المفاهيم، كما أنه لن يصل بقانون واحد أو وحيد، إلى تلخيص سيرورة الحياة التي لا تنقطع ولا إلى التنبؤ بمستقبلها . إن العلم يقف دون مثل هذه الإدعاءات المفرطة ويجابهها بدقة مباحثه وباليقين القائم في نتائجه.
ولئن كان النقد يُعرف أيضاً، وبصورة خاصة، بتهيئته لفلسفة جديدة، فإن ديلتاي يستحق أن ينظر إليه، كمفكر ،ناقد، إذ أن الدوعماتية (أو الوثوقية) التي يقف ضدها، لم يكن له، على ما كان الأمر مع كانط، من حاجة إلى تعرفها، وتفويضها داخل نفسه. إنه استمد نقضها من المحيط الذي كان يعيش فيه، منذ أن تحرر من الدين الذي نشيء عليه في طفولته. ولقد قامت أعمال ديلتاي أكثر ما قامت على تعميق هذا النقد تعميقاً، مكنه من إنشاء طريقة جديدة للتفلسف، إن هو لم يصل إلى إنشاء مذهب جديد.
والحق أن «كانطيته لا تظهر بالدرجة الأولى، في استعادة المشكلة: «ما الشروط التي تجعل بالإمكان قيام علم موضوعي للعالم الانساني». ولا حتى استعادة المسألة، مسألة «أهو ممكن قيام ميتا فيزياء وفلسفة للتاريخ ؟» بل إنها ، بشكل أبسط، لتظهر في التأكيد، أن على الفكر الفلسفي، كي يبلغ الحقيقة، أن يستند إلى يقينه المباشر الوحيد، وهو التجربة الداخلية. وعلى ذلك، فإن نقدية ديلتاي تعني قبل كل شيء انعطاف العقل على ذاته وتحليل المعطى واطراح كل قضية، لا تجد في هذا التحليل تبريراً لها.
وهكذا فإن كلمة العودة إلى كانط الشائعة والمشتركة بين ديلتاي وبين مدارس الكانطية الجديدة، المعاصرة له، كانت تشتمل تلقائياً على بوادر جديدة. ذلك أن النقد لا يؤدي فقط الى الفعاليات المجردة التي بينها كانط عندما درس الشروط الضرورية للرياضيات والفيزياء، بل يؤدي كذلك إلى مشاريع أخرى غير هذه أيضاً.
ويعود ديلتاي، على مثال برغسون ولكن بصورة أخرى، فيرقى إلى تجربة الشعور الأصيلة، مكتشفاً فيها مجموع الحياة النفسية. وهكذا فإن التحليل المتعالي لديه، ينتهي إلى إنشاء فلسفة جديدة للحياة. وعنده أن الانعطاف على الذات ليس بخاصة من خصائص الذكاء وحده، بل هو سمة فريدة يتسم بها الوجود الانساني . وكثيراً ما فسرت مؤلفات كانط باعتبارها وعي العقل لذاته. وهنا نتحدث عن جهد الحياة، المتجه إلى وعي إحاطي للذات.
وليست الميتافيزياء التي ينفيها ديلتاي، مما يُخلط بأية فلسفة أخرى، كما أن فلسفة التاريخ التي يستبعدها ، لا تختلط بأي تفكير فلسفي، حول الماضي الإنساني. والميتا فيزياء المستحيلة هي تلك التي تدعي العودة إلى الوراء، مجانبة للحياة، أو تلك التي تدعي إعادة إنشاء العالم بالاعتماد على بعض المفاهيم، إنشاءاً يحيط بكل ثراء العالم. أما فلسفة التاريخ المدينة أو المدانة بلغة المحدثين) فإنها تلك التي تشتق من التفسير المسيحي للعالم : كالقول بالخطيئة، أو بملكوت الله، أو العناية الالهية، أي بهذه المفاهيم التي تكشف لنا من وراء المظاهر، سبب ما قدر لنا أو علينا . ومتى زالت العقائد لن يبقى بعدها إلا الإدعاء السخيف بالقدرة على تعيين قدر أو نصيب الإنسانية، والإحاطة من خلال فكرة وحيدة، مثل فكرة تنامي الحرية بالماضي والحاضر والمستقبل.
ولكنه يبقى لنا، مع ذلك، فلسفة مشروعة : هي تلك التي تجهد لفهم الإنسان، من خلال ماضيه وأعماله ، وتعيد مثل هذه الفلسفة إلى الميتافيزياءات، تلك القيمة التي كانت تنفعها على مستوى الحقيقة، عن طريق تأويلها (تأويل الميتافيزياءات) كتعابير عن الحياة. وأكثر من ذلك أن الفلسفة الجديدة تظل كاستطالة للتراكيب المفهومية لأنها هي أيضاً تؤثر الفهم الموضوعي للكلية الكونية، فلا تمر بالتاريخ، ولابفهم الماضي، ولا بفلسفة الفلسفة» إلا لتبلغ أخيراً، ذروة اليقين والكلية الكونية، التي تتطور في إطار الصيرورة الإنسانية (ونعني بذلك أنها تتطور داخل الصيرورة). وإذا كنا لا نعرف حتى الآن تلك العناية المسيرة للكون» أو القوى التي يزعمون أنها تتحكم في العالم، وكنا أيضاً لا نلمح سبباً وعقلاً هو الذي يوجه العالم فذلك لأنه ليس للحياة من هدف آخر غير نفسها : وهكذا فإن الغاية تظل متحققة في كل لحظة من لحظات التاريخ، حتى ليمكن القول : إن العلم ليس سعة الاطلاع الضخمة، ولا هو مجرد الفضول، بل هو وسيلة الانسان، لتحديد موضعه في العالم، واكتشاف نفسه.
ويتخذ ديلتاي في مجموع دراستنا هذه مكاناً استثنائياً : فتراه في نقطة البداية، ولكنه كذلك موجود في نقطة النهاية. وكل هذا التتابع الجدلي، الذي نريد اتباعه هنا، قد استعرضه هو أيضاً، بدءاً من نفي التاريخ، ومروراً بنقد العقل التاريخي، ووصولاً آخر الأمر، إلى فلسفته الخاصة بالإنسان . ولا ريب أنه لم ينجح قط في تحقيق مشاريعه تحقيقاً كاملاً. وعلينا أن نلتمس في المقتطفات، ذلك التعبير عن الأفكار التي تجعلنا كتبه نلمحها لمحاً فقط. أما اليوم فإننا نغامر بتضحية «ديلتاي» الحقيقي، للتأويل الذي يوحي به الوضع الحالي. وعلى الرغم من كل شيء فإنه إذا كان «ديلتاي» على الموضة اليوم، فإن هذا ليس مجرد حادث عارض فقط، أو نتيجة لنشر مجموعة مؤلفاته من جديد، بل إن في كتاباته على الأقل، جملة الخطوط الأولى للفلسفات التي سنستعرضها هنا كنقد المعرفة التاريخية، ونسبية هذه المعرفة، والنسبية التاريخية لكل القيم، والارتقاء بالصيرورة إلى مستوى المطلق ونسبية الحقيقة. وأخيراً سنجد في البداية والنهاية، فلسفة للإنسان من حيث هو كائن تاريخي."
رابط تحميل الكتاب