كتاب سؤال الأخلاق؛ مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية - تأليف طه عبد الرحمن - أونلاين بصيغة إلكترونية ONLINE PDF
معلومات عن الكتاب :
إسم الكتاب : سؤال الأخلاق؛ مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية.
تأليف : طه عبد الرحمن.
الناشر : المركز الثقافي العربي.
صيغة الكتاب : PDFelement (البرامج المقترحة nitro pro, expert pdf).
مقتطف من الكتاب :
"التعريف "الديكارتي" للعقل
أما التعريف الثاني الذي نريد النظر فيه، فهو التعريف "الديكارتي" الذي يقرر أن العقلانية قائمة في معنى استخدام المنهج العقلي على الوجه الذي يتحدد به في سياق ممارسة العلوم الحديثة ولا سيما الرياضية منها ، وحتى يتسنى لنا الحكم على هذا التصور الحديث للعقلانية نحتاج إلى مزيد التفصيل للمعايير الثلاثة التي ذكرناها سالفا ببيان بعض النتائج المترتبة عليها.
فمعيار التقويم، يترتب عليه أن الإنسان لا يفتأ يحدد أهدافا وغايات أو بالاصطلاح الأصولي مقاصد " ، أي قيما يعمل وفقها ؛ ومعلوم أن هذه المقاصد والقيم تتصف بالتنوع : فمنها الأصلي والفرعي، ومنها الأصيل والدخيل، ومنها الموروث والمكتسب ؛ ويمكن تقسيمها على وجه الإجمال إلى قسمين اثنين هما : قسم المقاصد النافعة وقسم المقاصد الضارة.
أما معيار الفاعلية، فيترتب عليه أن الإنسان يتخذ وسائل لبلوغ هذه المقاصد ؛ ومعلوم أن هذه الوسائل تتصف هي الأخرى بالتعدد، وقد تتعدد بالنسبة للمقصد الواحد ؛ ويمكن تصنيفها هي الأخرى على وجه العموم إلى صنفين اثنين هما : صنف "الوسائل الناجعة وصنف الوسائل القاصرة " .
وأما معيار التكامل فيلزم منه أن تكون الوسائل والمقاصد خادمة لوحدة مظاهر الإنسان، ولا يمكن أن تكون خادمة لهذه الوحدة إلا إذا اتصفت المقاصد بوصف "النفع" واتصفت الوسائل بوصف "النجوع".
وإذا تبين أن معيار التقويم يتعلق بالمقاصد وأن معيار الفاعلية يتعلق بالوسائل وأن معيار التكامل يتعلق بالنفع في المقاصد والنجوع في الوسائل، حق لنا أن نتساءل هل يستجيب المنهج العقلي ذو الأصل الديكارتي" لشرط النفع في المقاصد ولشرط النجوع في الوسائل؟
1.3.1. المنهج العقلي وحدود النفع في المقاصد : إن الناظر في مقاصد هذا المنهج العقلي العلمي يتبين أنها تتصف بصفات ثلاث هي: "النسبية" و " الاسترقاقية" و "الفوضوية.
أن النسبية : إذا كان من المقاصد النافعة أن تكون قوانين العقل مشتركة وكلية وواحدة عند العقلاء جميعا، فإن واقع المنهج العقلي العلمي يشهد بغير ذلك؛ فمعلوم أن المنطق هو العلم الذي يشتغل بدراسة قوانين العقل المشتركة والكلية فإذا نحن تفحصنا أطواره وأبوابه، وجدنا أنه يشتمل على أصناف متكاثرة ومتغايرة من القواعد والمسلمات وبالتالي من الأنساق والنظريات التي تُبنى عليها، بحيث ما يصح في هذا النسق - أو هذه النظرية - قد لا يصح في ذاك - أو تلك ـ والعكس بالعكس؛ هذا بالإضافة إلى الاختلاف المشهور بين الهندسة الإقليدية" و "الهندسة اللاإقليدية" في العلوم الرياضية وكذلك بين نظرية المكان المطلق" و "نظرية النسبية " في العلوم الفيزيائية.
وإذا كانت طرق العلوم بمثل هذا التكاثر ،والاختلاف فإن إنشاء خطاب علمي عن العقل الإنساني بوصفه حقيقة واحدة مشتركة بين الناس لا يمكن اعتباره مقصدا من المقاصد التي يتوخاها المنهج العقلي العلمي الحديث.
ب. الاسترقاقية: إذا كان من المقاصد النافعة أيضا أن تؤدي المناهج العلمية إلى تحرير الإنسان وتوسيع إمكانات وآفاق إسعاده، فإن إمعان النظر في الأحوال التي تتقلب فيها المناهج التقنية تُظهر لنا أن هذه الآمال الزاهية بعيدة كل البعد عن التحقق ؛ والسبب في ذلك أن هذه التقنيات توالدت وتكاثرت على جميع المستويات وفي كل الاتجاهات منشئة بذلك كونا تقنيا خاصا يحتوي الإنسان احتواء ويستحوذ على إرادته وتغيب آفاقه عن عقله أو إن شئتَ قلت، يسترقه، بعد أن كان هذا الإنسان يمنّي النفس بأن يسخر الكون له تسخيرا.
وما هذا الانقلاب على الإنسان إلا لأن التقنيات أخذت تستقل بنفسها وتسير وفق منطقها الخاص بغير بصيرة من الإنسان وقوام هذا المنطق الآلي مبدآن :
أحدهما مبدأ لا عقلاني ومقتضاه أن كل شيء ممكن"، مما يؤدي إلى أن تستبيح الآلة كل شيء في الإنسان.
والثاني، مبدأ لا أخلاقي، ومقتضاه : "أن كل ما كان ممكنا، وجب صنعه "، مما يؤدي إلى التحلل من كل الموانع الأخلاقية المؤدية إلى المكارم.
ولما كانت المناهج التقنية تتجه إلى رفع كل الضوابط الموجهة للسلوك وإلى السقوط في الظلمات سقط اعتبار مهمة تحرير الإنسان وإسعاده مقصدا حقيقيا وفعليا للممارسة العقلية العلمية الحديثة.
ج. الفوضوية: إذا كان من المقاصد النافعة كذلك أن يؤدي المنهج العلمي إلى النظام والترتيب والوصل فإن النظر في تاريخ العلم يبين أن النظريات العلمية لا تنمو نموا مطردا ولا يركب بعضها بعضا ركوب الطبقات بعضها فوق بعض، متجهة خطوة خطوة إلى تحقيق كمال المعرفة، وإنما أن بعضها قاطع عن بعض، بحيث تقوم بينها علاقات تباين ،وتهادم لا علاقة تكامل وتساند (نحو التباين بين "نظرية التكوين" و "نظرية التطور " ، وكذا بين "الميكانيكا "العقلية" و " الميكانيكا الذرية " ، والتباين بين نظرية إنشتاين" و "نظرية نيوتن " ...).
أضف إلى كون هذه النظريات لا يُكمل بعضها بعضا، أن كلا منها، ما أن يتخذ له طريقا في الإجابة على بعض الأسئلة حتى يقع في أسئلة أخرى قد تكون أعوص منها، فتأخذ الأسئلة في التزايد والانتشار في كل اتجاه، بحيث قد يؤديان إلى الخبط، فضلا عن الأسئلة التي لا تلقى أبدا الإجابة داخل نطاق النظرية العلمية، سواء منها تلك التي تتصل بحدود الإطار النظري وحدود وسائل التفسير أو تلك التي تتعلق بالخصائص الذاتية للأشياء أو بحقائقها.
ولما كانت المناهج العقلية العلمية المتداولة تؤدي إلى تضارب النظريات العلمية فيما بينها بطل الادعاء بأن طلب النظام والتكامل يشكل مقصدا حقيقيا لهذه المناهج.
وهكذا، يتضح لنا من النظر في مقاصد المنهج العقلي العلمي الحديث أن هذا المنهج قد يطلب النسبية والتفاضل بدل الوحدة والتكامل ويطلب الاسترقاق بدل التحرير، ويطلب الفوضى بدل النظام.
وبهذا، تجلب العقلانية العلمية المتداولة مقاصد ضارة، فتكون مخالفة لركن من أركان العقلانية السليمة الذي هو " النفع " ، فهل تكون حينئذ موافقة للركن الثاني الذي هو النجوع في الوسائل ؟"
رابط تحميل الكتاب