كتاب سؤال العمل بحث فى الأصول العملية فى الفكر والعلم - تأليف د. طه عبد الرحمن - أونلاين بصيغة إلكترونية ONLINE PDF
معلومات عن الكتاب :
إسم الكتاب : سؤال العمل بحث فى الأصول العملية فى الفكر والعلم.
تأليف : د. طه عبد الرحمن.
الناشر : المركز الثقافي العربي.
الحجم : 8.67 ميجا بايت.
صيغة الكتاب : PDFelement (البرامج المقترحة nitro pro, expert pdf).
مقتطف من الكتاب :
"فضائل العقل الموسع ؛ لقد ذكرنا أن العقل في النص القرآني ليس ذاتا ، وإنما ،فعلا وأن هذا الفعل العقلي منسوب فيه إلى القلب، وأن القلب هو الذات الجامعة التي تصل بفضل فعلها العقلي قوى الإدراك جميعا بعضها ببعض، وتتوجّه بها في تكامل، بل في تداخل بينها، إلى الأشياء المراد إدراكها ؛ وتترتب على هذه الحقائق النتائج الآتية :
أ. أن الفعل العقلي في أصله، ليس مفصولا عن أي فعل إدراكي آخر، بحيث يبطل الاعتقاد السائد بأن الفعل الشعوري أو الوجداني، على سبيل المثال، لا يدخل في باب الأفعال العقلية؛ إذ هو الآخر، يحمل من آثار هذا الفعل العقلي على قدره، إن قليلا أو كثيرا.
ب. أن وجود الفعل العقلي القلبي في الأفعال يؤثر في طبيعيتها الإدراكية، فيجعلها تُدرك ما لم تكن تُدركه أو تُدركه على وجه أو بقدر لم تكن تدركه به، إن شعورا أو فهما أو علما .
ج. أن الفعل العقلي القلبي يجعل الأفعال الإدراكية ترتقي من إدراك ظاهر الأشياء إلى إدراك باطنها والارتقاء في هذا الإدراك، وذلك متى وافق هذا الفعلُ الفطرة التي خلق الله عليها الإنسان.
وبناء على هذه الحقائق، يظهر أن العقل الموسع إنما هو العقل الذي تزدوج فيه قوى الإدراك، بحيث تكون كل واحدة من هذه القوى الإدراكية عبارة عن قوتين اثنتين، إحداهما قوة خارجية - أو حسية - لا تُدرك من الأشياء إلا ظواهرها وقوانينها وهذه القوة هي التي نطلق عليه اسم العقل المجرَّد، إذ لا يُشترط فيها الدخول في العمل الديني ؛ والثانية قوة داخلية ـ أو معنوية ـ تقف على بواطن هذه الأشياء ،وأسرارها ويُشترط فيها التحقق بالعمل الديني، بحيث لا يحصلها إلا ذو العقل المسدَّد أو ذو العقل المؤيَّد ؛ ونجد في القرآن الكريم من الآيات ما يؤيد هذا الازدواج؛ فمثلا السمع سمعان: ظاهر وباطن، مصداقا للآية الكريمة : ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون، إن شر الدواب عند الله الصم والبكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون؛ والبصر بصران: ظاهر وباطن، مصداقا للآية الكريمة : وإن تدعوهم إلى الهدى، لا يسمعوا، وتراهم ينظرون إليك، وهم لا يبصرون أو الآية: (ومنهم من يستمعون إليك، أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ؛ ومنهم من ينظر إليك، أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون»؛ والعقل عقلان: ظاهر وباطن، مصداقا للآية الكريمة: «أفلم يسيروا في الأرض، فتكون لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور»؛ وذلك لأن قلوبهم لا تعقل إلا ظواهر الأشياء، أما بواطنها الدالة على حقائقها، فهذه القلوب عن إدراكها محجوبة بالكلية.
وعلى هذا، يتعيّن تحصيل العقل الذي يتسع لهاتين القوتين معا، مستمدا هذا الاتساع من أصل القلب وهو على فطرته الأولى؛ ويكون مضمون هذا الاستمداد عبارة عن مقاصد ومعان وقيم متى وقف العقل عند رتبة التسديد، وعبارة عن «أسرار» و «أنوار» و «أرواح متى ارتقى العقل إلى رتبة التأييد، وكلها تسد النقص الذي يعتري العقل المجرَّد على مراتب مختلفة؛ ولا عجب أن يستعمل الخطاب القرآني بهذا الشأن أفعالا لها أبنية تفيد التكرير والتكثير والأخذ بقوة مثل «تفَكَّرَ» و«تدبَّر» و«تذكَّر»، إذ تقضي هذه الأفعال ببذل الجهد في الارتقاء بالعقل من الإدراك الأول الذي يقتنص من الموجودات ظواهرها إلى الإدراك الآخر الذي ينفذ إلى بواطنها متطلعا إلى معرفة مبدعها في تجلياته عليها بالإيجاد والإمداد.
ومتی از دوجت هاتان القوتان في العقل انفتحت دائرة إدراكاته، وسرح في فضاء أوسع مما عهده، وأخذ الإنسان ينظر إلى الظواهر في نفسه وفي الأفق من حوله على أنها آيات بديعة من ورائها معانٍ سامية وأسرار ملكوتية تجاوز طاقة العقل المجرَّد معان وأسرار تكشف عن بعض الحكمة الإلهية التي هي من وراء وجود القوانين التي تضبط الظواهر الكونية والتي يتعلق بها العقل المجرد للوهلة الأولى؛ ولا يزال الإنسان يمارس هذا النظر الموسّع الذي يتعدى الظواهر إلى ما فوقها، حتى يصير وصفا قائما بنفسه لا يحيد عنه أبدا، فحينئذ تتدفق، أودية عقله أمداد الإيمان بلا انقطاع، بحيث يمحو عقله الموسع عقله المجرَّد، فلا يدرك ظاهر الأشياء إلا موصولا بباطنها، ولا يبحث في قوانينها إلا في أفق الصلة بأسرارها، ذلك لأن الإيمان أضحى عنده أساس كل إدراك يأتيه.
وهكذا، فإن العقل الموسع هو العقل الذي يقف على ما يقف عليه العقل المجرد من القضايا والقوانين، لكن يزيد عليه أمرا عظيما لا يطيقه العقل المجرد ما بقي على تجريده الضيق، ألا وهو تأسيسها على الحقائق الإيمانية الواسعة، إذ من شأن هذا التأسيس أن يجدّد النظر إلى هذه القضايا والقوانين بما لم يكن في حسبان العقل المجرّد، ويَمدُّها بالمشروعية التي كانت تفتقدها والتي لولاها، لتهافت منطق وجودها ؛ ومن صار يملك عقلا بهذا الوصف، لا محالة أنه أصبح إنسانا جديدا دفاقا إيمانه، مكتوبا في قلبه ؛ فذوو العقول الموسعة. الذين أطلق عليهم القرآن اسم أولو الألباب، إذ هم أولئك الذي انكتب الإيمان في قلوبهم، مستوليا حبُّه على مشاعرهم، ومتدفّقا مدده في مداركهم، ، بحيث كل إدراك من إدراكاتهم ينضح إيمانا ، بل لاحِقُ إدراكاتهم أكثر نضحا للإيمان من سابقها، حتى ولو عادوا إلى نفس الإدراكات مصداقا لقوله تعالى: «إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب الذي يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك، فقنا عذاب النار، كما يصفهم القرآن بـ «الراسخين في العلم كما في الآية: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به، كل من عند ربنا، وما يذكر إلا أولو الألباب، وما هذا إلا لأن إيمانهم بما خفي عنهم سره لا يقل عن إيمانهم بما ظهر لهم أمره."
رابط تحميل الكتاب