كتاب الحضارة - دراسة في أصول وعوامل قيامها وتطورها تأليف د. حسين مؤنس - أونلاين بصيغة إلكترونية online pdf
معلومات عن الكتاب :
إسم الكتاب : الحضارة - دراسة في أصول وعوامل قيامها وتطورها.
المؤلف : حسين مؤنس.
الناشر : المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.
عدد الصفحات : 354.
صيغة الكتاب : PDFelement (البرامج المقترحة nitro pro, expert pdf).
مقتطف من الكتاب :
"التاريخ والحضارة
إلى حين قريب كان الناس يعتقدون أن التاريخ هو علم الماضي، وأن موضوعه هو دراسة ما مضى وفات من الأحداث، كقيام الدول وتعاقب الملوك على عرشها ثم سقوطها ؟ قيام غيرها، والحروب والغارات والهجرات واتفاقات السلام ونوازل الطبيعة ذات الأثر المحسوس في حياة الناس، كالزلازل والفيضانات وما إلى ذلك مما «لابد من ذكره ولا سبيل إلى إهمال أمره كما يقول المسعودي.
وكانوا يرون كذلك أن التاريخ يشمل إلى جانب ذلك-سير من يسمون بعظماء البشر وقادة الناس وما قاموا به من أعمال توصف بأنها عظيمة، سواء أكانت نافعة كإقامة السلام وحماية القانون وتأمين الناس وإنشاء المرافق التي تعود بالخير على البشر، أو غير نافعة كقيادة حملات الغزو والتدمير وتخريب مراكز العمران وهذا هو ما عبر عنه شمس الدين السخاوي (831-90 1427-1497) في كتابه المسمى «الإعلان» بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ ويلتحق به ما يتفق من الحوادث والوقائع الجليلة من ظهور ملمة، وتجديد،فرض وخليفة، ووزير وغزوة، وملحمة، وحرب وفتح بلد أو انتزاعه من متغلب عليه، وانتقال دولة، وربما يتوسع فيه لبدء الخلق وقصص الأنبياء، وغير ذلك من أمور الأمم الماضية، وأحوال القيامة ومقدماتها مما سيأتي، أو دونها كبقاء جامع، أو مدرسة أو قنطرة، أو رصيف أو نحوها مما يعم الانتفاع به مما هو شائع مشاهد أو خفي، سماوي كجراد وكسوف وخسوف، أو أرضي كزلزلة وحريق وسيل وطوفان وقحط وطاعون وموتان، وغيرها من الكربات العظام والعجائب الجسام والحاصل أنه فن يبحث فيه عن وقائع الزمان من حيثية التعيين والتوقيت بل عما كان في العالم.
ونتيجة لهذا المذهب في فهم التاريخ كانت كتب التاريخ في العصور القديمة والوسطى، سجلات للأحداث تروى على علاتها دون تدقيق وتمحيص، أو سردا لتراجم من تمجيد العظماء وما قاموا به من الأعمال وما أنشأوا من الدول، إذا كانوا من أهل السياسة والحروب وما ألفوا من الكتب إذا كانوا من أهل الفكر والعلوم، أو ابتكروا من الأشياء إذا كانوا من أهل الحرف العملية كالطب والكيمياء والنبات والمعمار.
ولما كان التاريخ هو العلم بما مضى من الأحداث والرجال والدول فقد كان الناس يكتبونه للتسلية والإمتاع والمؤانسة أو للعبرة، ولم يدققوا لهذا- في تحقيق ما يروون، لأن التاريخ كان في اعتبارهم لونا من القصص، والفرق عندهم يسير لهذا بين التاريخ والأساطير، ومن المعروف أن لفظ «أسطورة» العربي إنما هو تعريب للفظ إستوريا istoria اليوناني.وقد كتب هوميروس إلياذته على أنها تاريخ، وهي في الواقع قصص خالص نسج على أساس من وقائع ماضية سجلها الشعراء والقصاص في أشعارهم وقصصهم دون تحقيق، وقد بلغ الأمر من هوان أمر التاريخ في نظر بعض مفكري الإغريق أن أرسطو في كتابه «بويتيقا » (الشعر) فضل الدرامة - أي القصص المسرحية- على التاريخ، لأن التاريخ في رأيه يسجل أحداثا مرسلة لا تنسجم في إطار قصة مكتملة، كما هو الحال في المسرحيات.
وأول من تلمس الفرق بين القصص والتاريخ هو هيرودوت، ولهذا فهو يسمى بأبي التاريخ، ومع ذلك فإن كتابته التاريخية حافلة بالقصص والمبالغات والشعر، ولكنه على أي حال إتجه إلى تحديد بعض الأحداث، وأتانا فيما روى بصفحات ناصة من التاريخ الصحيح وإن كانت قليلة.وبعد هيرودوت بدأ التاريخ يظهر كضرب مستقل من ضروب المعرفة له شخصيته ووظيفته وطبيعته. وعندما نصل إلى توكيديد نشعر أننا مع مؤرخ صحيح يشعر أن مهمته هي رواية الأحداث الماضية ونقدها.
وقد ظل الخط الفارق بين التاريخ والقصص غير واضح طوال العصور القديمة والوسطى، فظل المؤرخون حتى كبارهم رواة أساطير في نفس الوقت، وأكبر مثال لذلك أبو الحسن المسعودي، فلا شك في أنه كان مؤرخا جليلا، ولكن كتبه حافلة بالأقاصيص والأساطير، وهو يروي هذا كله على أنه تاريخ، ومثال ذلك من توالياه كتاب أخبار الزمان ومن أباده الحدثان» فإن قارئ هذا الكتاب لا يكاد يصدق أن مؤلفه هو نفس مؤلف «مروج الذهب» وهو من عيون الأصول التاريخية في مكتبتنا القومية، ومع ذلك فإن الخط الفاصل بين التاريخ والأساطير في هذا الكتاب الجليل غير واضح، والمسعودي على أي حال لم يكن مؤرخا منقطعا لهذا الفن، وإنما هو كان موسوعيا يكتب في كل شيء.
وقد احتاج التاريخ في الغرب إلى قرون طويلة لكي تظهر شخصيته ويستقل ويقوم علما كاملا له أصوله ومناهجه وقواعده.أما عند المسلمين فقد ولد من أول الأمر علما مستقل الشخصية واضح الخصائص، لأنه نشأ على نفس الأصول التي قام عليها علم الحديث، وهي الضبط والدقة والأمانة وتحري الصدق، فقد بدأ التاريخ عند المسلمين بالسيرة النبوية، وهي في ذاتها حديث نبوي طويل، لأن الحديث هو كل ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو استحسان أو استهجان أو إقرار.
وقد التزم الأخباريون الأوائل الذين مهدوا لكتابة السيرة، من أمثال أبان إبن عثمان وعبيد بن شرية وعروة بن الزبير الأصول التي اعتمدها المحدثون فيما رووا من أخبار، وكذلك فعل أصحاب المغازي من أمثال موسى بن عقبة والواقدي، ثم جاء محمد بن إسحاق المطلبي فكتب سيرة النبي صلى الله عليه وسئم ملتزما الدقة والأمانة قدر ما استطاع، وأهدانا بذلك أول مؤلف كامل في علم التاريخ قادم على الضبط والدقة والأمانة الكاملة فيما روى من أحداث.
أما الأساطير التي شابت علم التاريخ عند المسلمين فيما بعد فقد أتت من مصدر آخر غير الحديث وهو التفسير، ذلك أن أوائل من تعرضوا لتفسير القرآن الكريم لم يجدوا بين أيديهم تفاصيل يشرحون بها الكثير مما ورد في القرآن الكريم من أخبار الأمم الماضية، فالتمسوا المادة فيما وصل إليهم من تفاصيل ما روي من هذه الأحداث في الكتب الدينية المتداولة بين اليهود والنصارى، وفي الحكايات التي كان يتناقلها الفرس والهنود والمصريون والإغريق وغيرهم ممن دخل الإسلام أو صار في ذمة دولته، وساعد على ذيوعها بينهم أن نفرا من أهل الكتاب هؤلاء دخلوا الإسلام حاملين معهم ما ورد في كتبهم الدينية من أخبار عن الماضين، وخاصة الأنبياء والرسل ومن تبعهم أو لم يتبعهم من الأقوام وما قام بينهم وبين خصومهم من صراع، فدخل الكثير من ذلك كله في تفسير القرآن الكريم. وقد أنكر فقهاء المسلمين الكثير من هذه التفاصيل وسموها بالإسرائيليات، وتحاشوا ترديدها وحذروا الناس منها، ومع ذلك فقد لقيت قبولا واسعا عند طلاب الأخبار من الناس، إذ لم يكن لديهم سواها، ثم إن حسهم التاريخي كان قليلا، وكتاب المسعودي الذي أشرنا إليه، وهو «أخبار الزمان» يعتبر سجلا حافلا بهذه الإسرائيليات التي اجتهد الوضاعون في إعطائها طابعا إسلاميا، كهذا الحديث الذي يرويه المسعودي ناسبا إياه إلى إبن عباس ملخصه أن اليهود سألوا الرسول عن مبدأ الخلق، فقصه عليهم قائلا «خلق الله الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين، وخلق الجبال وما فيها من منافع يوم الثلاثاء...» إلى آخر هذا الحديث المكذوب، الذي لا يحتاج الإنسان إلى طويل تفكير ليتبين أنه منقول من سفر التكوين في العهد القديم.."
رابط تحميل الكتاب: