كتاب مدخل إلى فلسفة العلوم، العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي - تأليف محمد عابد الجابري - أونلاين بصيغة إلكترونية ONLINE PDF
معلومات عن الكتاب :
إسم الكتاب : مدخل إلى فلسفة العلوم، العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي.
مؤلف : محمد عابد الجابري.
الصفحات: 476.
حجم الملف : 5.3 ميجا بايت.
صيغة الكتاب : PDFelement (البرامج المقترحة nitro pro, expert pdf).
مقتطف من الكتاب :
"المنهاج الديكارتي بين الفلسفة والعلم
من المعروف أن ديكارت Descartes (١٥٩٦ - ١٦٥٠) شيّد نظاماً فلسفياً متماسكاً، انطلق في بنائه وبترتيب ونظام من الكوجيتو: أنا أشك، وأعرف أني أشك، وبالتالي فأنا أفكر، وإذن، فأنا موجود هذه الحقيقة بديهية، كما يقول ديكارت. والمشكلة هي كيف الخروج من الكوجينو، من «أنا أفكره؟ وجد ديكارت لنفسه مخرجاً، بفحص أفكاره و «عثوره فيها على فكرة كائن كامل مطلق الكمال (الله). بحث عن مصدر هذه الفكرة، فقال : إنها لا يمكن أن تكون تابعة مني أنا الكائن الناقص، إذ لا يعقل أن يكون الناقص مصدراً للكمال. فلا بد أن يكون هذا الكائن الكامل هو الذي أودعها في، ولا بد أن يكون نفسه موجوداً، لأن كماله يقتضي وجوده، كما يقتضي هو أنه إله غير خداع. هذه. الخطوة هي الأولى في عملية الخروج من الكوجيتو. أما الخطوة الثانية فهي كل ما يلي: بما أن هذا الكائن الكامل لا يمكن أن يخدعني لأنه كامل، والمكمال يتنافى مع الخداع، وبما أن لدي ميلاً قوياً إلى اعتبار هذا العالم الخارج عن نفسي موجوداً، فإني أسلم بوجوده بقينا، والله ضامن هذا اليقين.
وإذن، فيمكنني أن أبني علماً ومعرفة بهذا العالم، شريطة أن أنطلق في عملية البناء هذه من الأفكار الواضحة، ثم أستنتج من هذا العلم وهذه المعرفة التطبيقات التقنية التي تمكنني من السيطرة على الطبيعة. هكذا تصبح الفلسفة عند ديكارت كشجرة، جذورها الميتافيزيقا، وجذعها الفيزياء، وأغصانها المتفرعة عنها هي مختلف العلوم التطبيقية التي ترجع إلى ثلاثة رئيية : المطب، والميكانيك، والأخلاق. الميتافيزيقا هي : أساس للفيزياء، ومن الفيزياء تستنتج التطبيقات العملية.
هذا النظام المنطقي الذي يحدثنا عنه ديكارت في كتبه الفلسفية غير النظام التاريخي الذي سار عليه فكره فلقد بدأ ديكارت كعالم وكرياضي قبل أن ينتهي به الأمر إلى الفلسفة. بدأ حياته كعالم ومجرب، فبحث في السرعة والتسارع وصاغ قانون القصور الذاتي (أو العطالة) واهتم بالضوء بضبط قانون انكساره، وأنشأ الهندسة التحليلية، واستعمل الحروف في الجبر بدل الأعداد واستبدل بالحروف الأشكال الهندسية، واهتم بالعلاقات الرياضية العامة.
ألح ديكارت على أهمية المنهاج الرياضي وضرورة اصطناعه، لأنه وحده طريق اليقين. ولذلك فهو عندما يدعو إلى تعلم الرياضيات لا يقصد من ذلك اكتساب معرفة بالأعداد والأشكال وخواصها كما كان الشأن من قبل، بل من أجل تعويد الذهن على استعمال المنهج أو الطريق الذي يوصل إلى اليقين. إن المهم في نظره ليس تطبيق الرياضيات على الطبيعة، وإن كان قد فعل هو نفسه ذلك في مرحلته العلمية، بل المهم بالنسبة إليه الآن كفيلسوف هو الحصول منها على طريقة تجنبنا الوقوع في الخطأ وتهدينا إلى مستقيم التفكير. وبإمكان الناس جميعاً أن يحصل لهم ذلك لأن العقل السليم هو أعدل الأشياء قسمة بين الناسه. وإذن، فوحدة المنهج لديه راجعة إلى وحدة الفكرة، لا وحدة العالم. فالعالم كثير ومتغير. أما العقل فواحد. وفي وحدة العقل تجد وحدة العالم شرطها الكافي.
ما الذي يجعل المنهاج الرياضي مثلا أعلى للمعقولية وطريقاً أكيداً لبلوغ اليقين؟ إننه النظام والقياس : النظام الذي يمكن من استنتاج المجهول من المعلوم، والقياس الذي يمكن من تحويل الأشياء إلى مقادير كمية بواسطة وحدة نختارها كأساس للقياس النظام يجعلنا تضع كل حد في مكانه العبارة الرياضية فتتأدى بذلك إلى الكشف عن قيم الحدود المجهولة، وذلك بعد أن نكون قد حولنا الكيفيات إلى كميات بواسطة القياس.
ولكن كيف السبيل إلى تقويم عقولنا حتى تتعود العمل بنظام وترتيب؟
ليس من سبيل إلى ذلك إلا يفحص العمل،نفه، في حالته الخالصة واكتشاف قواه الأساسية. وإذا نحن قمنا بهذا الفحص تبين لنا أن قوى العقل ترجع في نهاية التحليل إلى قوتين الحدس والاستنتاج بالحدس وهو رؤية عقلية مباشرة، نكتشف الطبائع البسيطة، أي الأفكار والمباديء التي لا يمكن ارجاعها إلى أبسط منها، مثل الامتداد والحركة، ومثل ه الحقائق البديهية كـ أفكر إذن أنا موجوده ومثل العلاقة التي تقوم بين حقيقة ما والحقيقة المرتبطة بها، مثل 1 + 3 = 4. وإذن، فالبساطة التي يعنيها ديكارت هنا ليست بساطة المفاهيم أو الأشياء، بل بساطة الفعل العقلي. فالفعل العقلي البسيط - في نفره - يجعلنا ندرك الله كطبيعة بسيطة مثلما ندرك الدائرة والعدد والشكل ووجودي أنا، ومن ثمة فالمقصود بالنظام عند ديكارت هو نظام العقل لا نظام الأشياء. ولذلك كان الاستنتاج هو الحصول على حقائق جديدة من حقائق تمت معرفتها بواسطة الحدس ومن هنا يكون الفرق بين الاستنتاج الأرسطي والاستنتاج الديكارتي هو أن الأول عبارة عن رابطة بين مفاهيم (مفهوم الانسان - سقراط، ومفهوم الموت، في حين أن الثاني هو رابطة بين حقائق (من حقيقة وأفكر فأنا موجود استنتج حقيقة وجود الله كضامن لليقين، ثم حقيقة وجود العالم الطبيعي. الخ ). الاستنتاج الديكارتي هو حركة فكرية متواصلة يقوم بها فكر يرى الأشياء الواحد تلو الآخر، بوضوح كامل. إنه استنتاج يقوم على قضايا يقينية، ويقينها راجع إلى البداهة العقلية، أي إلى الحدس، في حين يقبل القياس الأرسطي القضايا الاحتمالية ويعتمد في يقينه على الاستقراء التام، وهو منعذر.
منهج ديكارت، إذن، منهج فرضي - استنتاجي فهو ينطلق من الحقائق التي تدلنا عليها البداهة العقلية أي من الفروض)، ومنها يستنتج نتائج، ومن هذه النتائج يستخلص نتائج جديدة، حتى يصل إلى نتائج تفسر العالم الطبيعي. وللتأكد من صحة هذه النتائج الأخيرة يلجأ إلى التجربة. وديكارت يلح على ضرورة اعتماد التجربة، ليس عند بداية البحث وحسب، بل عند نهايته أيضاً.
ولكي نأخذ فكرة أوضح عن هذا المنهج الفرضي - الاستنتاجي - التجريبي الديكارتي نترك ديكارت نفسه يحدثنا عنه. يقول : لقد عملت أولاً على الحصول على المبادىء الأولى التي هي محلة كل ما يوجد، وما يمكن أن يوجد دون اعتبار أي سبب آخر غير الله خالق الكون، والبذور التي زرعها فينا يقصد الأفكار الفطرية). ثم بحثت بعد ذلك عن الموجودات العامة التي ننسبها إلى هذه الأسباب الأولى، فوجدت السموات والنجوم والأرض والبحار. وغير ذلك من الأشياء التي يعرفها الجميع. وعندما أردت النزول إلى ما هو جزئي ومختلف، إلى ما هو خاص، وجدت نفسي أمام كثرة واختلاف، فذهلت لأني لم أتبين كيف أعالجها بوصفها نتائج للأسباب الأولى، فعدت بذهني إلى ذلك من الأشياء التي لا تقدمها لي حواسي (كالامتداد والحركة فوجدت أنه لا يوجد في الحوادث الجزئية ما لا يمكن ارجاعه إلى تلك المباديء والقوانين (ومن هنا النزعة الميكانيكية الديكارتية). لكن الصعوبة هنا قائمة في تعيين المبادىء، التي ترجع إليها هذه الظاهرة أو تلك. ووسيلتنا الوحيدة للتأكد. ذلك هو الرجوع مجدداً إلى التجربة، فهي وحدها التي تفصل فيما إذا كانت هذه الظاهرة تعود إلى هذا المبدأ أو أنها ترجع إلى مبدأ آخر.
واضح من هذا أن نقطة الانطلاق عند ديكارت هي الأسباب الأولى لا الظواهر. فديكارت لا يقتصر على دراسة الظواهر كما فعل غاليليو، بل إنه لام هذا الأخير لكونه أغفل الأسباب الأولى»، واهتم بالجزئيات وحدها. أما اللجوء إلى التجربة، فليس من أجل الاكتشاف، بل من أجل التحقق مما قرره العقل : فإذا انطبق ما في العقل مع ما في التجربة كان ذلك دليلا على صحة الاستنتاج. وهكذا فالنتائج مبرهن عليها بالمقدمات، وهي أسبابها، والمقدمات مبرهن عليها بالنتائج، نتائجها هي ! ويجب أن لا ترى في هذا دوراً كما يقول المناطقة، لأن التجارب تؤكد صحة النتائج، وصحة النتائج تؤكد صحة المقدمات.
يقول ديكارت : إن الفروض التي وضعها كمقدمات ليس من الممكن البرهنة عليها قبلياً، وإلا تطلب ذلك تقديماً فيزيائياً، كلها مرة واحدة. ولكن النتائج التي استخلصها من تلك الفروض، والتي لا يمكن استخلاصها من فرض آخر، تبرهن، بعدينا، على تلك المقدمات، وأرجو أن يتأكد الجميع يوماً من صحة مقدماتي، مثلما يوافقون اليوم طاليس على رأيه القائل إن القمر يستمد ضوءه من الشمس، ففرضية طاليس هذه غير مبرهن عليها قبلياً، بل فسر بها ضوء القمر تفسيراً قبله الجميع. هكذا يجب أن ننظر إن المقدمات التي وضعتها، لأن النتائج تؤكدها بواسطة التجربة.
ويضيف قائلا : أما فيما يتعلق بتبرير المبادىء والأسباب التي وضعتها كمنطلق فيكفي أن تكون النتائج التي تلزم عنها شبيهة بما يحدث في الطبيعة. وليس من الضروري التأكد مما إذا كانت تصدر عن هذه الأسباب نفسها أو عن سبب آخر خفي على أنه يمكن الحصول على يقين معنوي بأن أشياء هذا العالم هي كما بينا. وذلك عندما يكون من الممكن مقارنة الفرضيات التي تفر الظواهر بالقيم المختلفة التي تعطى للرموز الجبرية. فكما أن صحة هذه المقيم تتوقف على مدى انسجامها. تركيب المعادلة الرياضية، فكذلك الفروض العلمية تعتبر صحيحة عندما تكون منسجمة مع معادلة الطبيعة. وهناك يقين ثالث أقوى من اليقين الأول والثاني نحصل عليه عندما يتبين لنا أنه لا يمكن الحكم على شيء ما إلا بما حکمنا به عليه، ويتعلق الأمر هنا بما يبرهن عليه رياضياً."
رابط تحميل الكتاب