مقالة "أزمة المعاش وأثرها على الديموغرافية في البادية المغربية خلاى القرن 19م" - تأليف د. الطيب بياض - أونلاين بصيغة إلكترونية ONLINE PDF
معلومات عن المقالة :
العنوان : أزمة المعاش وأثرها على الديموغرافية في البادية المغربية خلاى القرن 19م.
المؤلف : الطيب بياض.
المصدر : الأيام الوطنية العاشرة المجاعات والأوبئة في تاريخ المغرب.
عدد الصفحات : 11 ص.
صيغة المقالة : PDFelement (البرامج المقترحة nitro pro, expert pdf).
مقتطف من المقالة :
"لم تكن أزمة المعاش التي عرفها المغرب في القرن التاسع عشر بالشيء الجديد الطارئ على هذا البلد، ذلك أن الجزء الكبير من التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لبواديه لم نكتشفه إلا من خلال المصادر التي تحدثت عن الكوارث والمجاعات التي اجتاحتها والتي لم يشكل فيها القرن 19 استثناءا بل مجرد استمرارية لوضع قائم، ذلك أن الوثائق المتوفرة حول هذا القرن تؤكد أن هذه الأزمات تندرج في سياق تاريخ طويل، بمعنى أنها تضرب في عمق بنيات الاقتصاد القروي، وهو مؤشر على العجز عن التأمين الدائم للمعاش لمجموع السكان، أي الندرة العامة الإنتاج الزراعي، وإن كان ذلك لا يعني بالضرورة أن البلاد قد حافظت على بنياتها جامدة طوال قرون من الزمن. ومن الخطأ كذلك، الاستخفاف أو عدم الانتباه إلى الخصائص الجديدة أو المتغيرات التي تظهر مع توالي الأزمات في اقتصاديات النظم التقليدية. إن التجدد الآلي للمجاعات لم يكن إلا مظهراً لغياب الإرادة في التدبير الاقتصادي، ذلك أن ظاهرة توالي المجاعة لا تجد تفسيرها في نوعية التقنيات الزراعية و ارتباط الإنتاج بالظروف المناخية فقط، بل كذلك في النزوع نحو المحافظة، وفي طبيعة تسويق الإنتاج، وفي شكل البنيات الاجتماعية، وفي غياب التخطيط الاقتصادي، إن لم نقل تغييبه سيما، إذا علمنا أن المخزن كان يرى في الجوع، أحيانا، حلا سحريا أو ضارة نافعة كما جاء على لسان الحجوي الذي اعتبره رحمة في شكل حقنة مهدئة لثورة القبائل :
كما أن المسغبة كانت فيها رحمة حيث القبائل كانت في عتو من سوس إلى وجدة فمهد الله للسلطان أمرهم وسكنوا بسبب الجوع ومن أمثال المغاربة الجوع من جيش المخزن) وقد استمروا على الفساد وقطع الطريق سبع سنوات وما رجعوا للجادة إلا بفضل الجوع.
ولقد عتوا على المولى عبد الرحمان كعتوهم على عمه وامتنعوا من الدخول في طاعته وتعسر عليه علاجهم لضعفه وقلة ماله وجنوده وبقي ممنوعا من المسير للحوز خائفا على نفسه وعساكره حتى هيا الله له جند الجوع فخلت به منازلهم وهلكت خيلهم ومواشيهم وقلت زروعهم وجفت ضروعهم وضعفت شوكتهم وعظمت بليتهم وماتت عتاتهم وأبطالهم فعند ذلك تمهد الملك للمولى عبد الرحمان وانقادت له الرعية لضعفها لا لقوته".
إذا كان الشطر الأول من النص يعكس مقولة "مصائب قوم عند قوم فوائد"، فإن الشطر الثاني منه يكشف فعلا عمق المأساة المعاشية التي يخلفها الجوع في أوساط سكان البوادي المفتقدين لأي مناعة في مواجهة هذا "الجندي" الذي يأتي على الأخضر واليابس من أرزاقهم، فظاهرة توالي السنوات العجاف والسنوات السمان ألفها الإنسان المغربي المرتبط في تغذيته بما تجود به الأرض. وقد كشف البحث الذي أجري عن قيمة المحاصيل الزراعية خلال الفترة الممتدة ما بين 1807 و 1912 سواء بشمال البلاد أو جنوبها عن المعطيات التالية : 1/2 محصول جيد أو مقنع 1/3 بين ناقص ومتوسط، و 1/5 رديء".
وعموما فقد هيمنت زراعة الحبوب، في غياب استغلال جيد للأرض والمياه، واعتبر المغرب بلدا فلاحيا، لكنه عاجز في الوقت نفسه عن تغذية ساكنته بشكل منتظم، فهل مكنت تربية الماشية من تدارك النقص الحاصل في المعاش ؟
شكلت تربية الماشية خلال القرن التاسع عشر نشاطا رئيسا بالنسبة لفئة مهمة من ساكنة العالم القروي، فصارت تتحرك في المجال بقطعانها في مناطق شبه جافة، مشكلة في غالبيتها من براري وسهوب غير صالحة للزراعة. فقد تحكمت في هذا القطاع الإنتاجي عوامل تاريخية وجغرافية ومناخية جعلت ممارسته من طرف الرحل تتخذ شكل الظعون والانتجاع حسب المناطق بصرف النظر عن إمكانية تحقيق تكامل مع النشاط الزراعي، ذلك أن هذا النوع من التدبير لم يظهر إلا في مناطق محدودة من البلاد خاصة بسهول الغرب التي شهدت زراعات خاصة بعلف الماشية، وفي الواحات الصحراوية التي عرفت زراعة البرسيم لتوفير الكلأ للأبقار، كما عرفت مقدمة الريف نوعا من الزراعات العلفية. وإذا ما استثنينا هذه المناطق الثلاث فإن تربية الماشية ظلت في الغالب الأعم مستقلة عن الزراعة معتمدة أساسا على ما تجود به الأرض من الكلا، كما أنها لم تعرف تخصصا على مستوى الجهات وإن حصل ذلك فلم يكن بشكل إرادي مقصود بقدر ما تحكمت في توجيهه محددات مجالية ومناخية ، كتواجد الماعز في المناطق شبه الجافة والمناطق الجبلية وما عدا ذلك نجد قطعان الماعز والأغنام ترعى معا إلى جانب الخيل والبغال والحمير والأبقار في مجال فسيح ممتد غير مرتبط بالضرورة بوجود عذائرة.
إذا كانت الأرض جد متاحة ومتوفرة والمراعي جماعية، فإن ذلك لم يمنع من محدودية استعمالها، ذلك أن كل مجموعة بشرية، قبيلة كانت دوارا غالبا ما تحاول السيطرة على مراعي معينة لتحرم الجوار من استغلالها. أما نوعية العمل الذي يقوم به مربو الماشية فقد اقتصر على الرعي ومراقبة القطيع والتفاوض أو الصراع من أجل الحصول على المراعي، أو توسيع مجالها لتأمين كلا الماشية زمن القحوط. غير أن أهم المشاكل التي عرفتها تربية الماشية خاصة خلال السنوات العجاف تمثلت في توفير الماء للدواب، خاصة الأبقار التي تستهلك الواحدة منها ما بين 30 إلى 40 لتر يوميا، إذ يتطلب توريد 100 رأس خمس ساعات من العمل لجلب الماء من بئر يبلغ عمقه 60 مترا، ويتضاعف هذا المجهود بالنسبة لنفس العدد من الإبل. هذا العمل يعتمد أساسا على وسائل تقليدية تحركها سواعد الرعاة مستعينة بالحمير أحيانا.
ظل القطيع إذن يتحرك في الفيافي دون مأوى، يتكاثر ويتناسل بشكل طبيعي، دون تدخل من طرف مربيه لانتقاء أنواع جيدة من السلالات الحيوانية والعناية بها للرفع من الإنتاج هذا التعاطي السلبي مع هذا القطاع المنتج حال دون بروز فئة اجتماعية ميسورة من مربي
الماشية، وذات حظوة داخل المجتمع، ورائدة على مستوى الإنتاج، خاصة من الرحل. وحتى من أسعفهم الحظ في تكوين ثروة معينة، فقد عجزوا عن تطويرها في استثمارات أكثر إنتاجية سواء داخل تخصصهم أو في قطاعات أخرى، لتبقى تربية الماشية تعيش بموازاة مع الزراعة تحت رحمة المتغيرات المناخية معتمدة على وسائل لم تؤهلها لمواجهة مشاكلها وتأمين معاش أصحابها.
تلك إذن هي أهم الظواهر التي طبعت النشاط الفلاحي لمغرب القرن 19 وجعلته لا يتجاوز حدود القلة والكفاف بل ظل غير قادر على تغذية ساكنة بواديه بشكل منتظم، فبالأحرى توفير ما من شأنه تحريك عجلة النماء.
ولعل ما زاد الإنسان القروي بؤسا ومجاعة هو تضافر عوامل مكملة ، جعلت شغله الشاغل ينحصر في تأمين معاشه كالاجتياح الكثيف لجحافل الجراد، إذ يذكر نيكولا ميشال Nicolas (M) : أنه بين 1800 و 1912 اكتسح الجراد 32 مرة جهات مختلفة من البلاد تفاوتت حدة تضررها من سنة لأخرى، ففي سنة 1891 مثلا أتى على الأخضر واليابس بأولاد بوزرارة الذين اضطروا لاستدانة الحبوب من المخزن، الذي بدا عاجزا عن التصدي لهذه الآفة، فازداد وقعها على معاش الناس حدة. وسببت أزمات بلغت ذروتها بمنطقة سوس خلال فترة التسعينات من القرن 19."
رابط التحميل