كتاب نقد الحداثة في فكر نيتشه - تأليف د. محمد الشيخ - أونلاين بصيغة إلكترونية ONLINE PDF
معلومات عن الكتاب :
اسم الكتاب : نقد الحداثة في فكر نيتشه.
تأليف : د. محمد الشيخ.
الناشر : الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
حجم الملف : 24.24 ميجا بايت.
عدد الصفحات : 750.
صيغة الكتاب : PDFelement (البرامج المقترحة nitro pro, expert pdf).
مقتطف من الكتاب :
"قواعد إعادة كتابة التاريخ
هذا ولقد قمنا باستجلاء دلالة ضرورة مثول التاريخ أمام محكمة ديونيسيوس فوجدناه قد نمّ عن أمور عديدة شكلت مجملة، قواعد كتابة التاريخ، أو بالأحرى إعادة كتابته عند نيتشه ،وهي على جهة السلب، ثلاث:
.
أولاها ؛ تلزم كتابة تاريخ البشرية بصرف النظر عن ثنائية «الخير والشر»؛ أي عن كل حس خلقي بمعزل فحقل التاريخ حقل «غير أخلاقي»؛ وذلك لا بمعنى أنه عديم الخلق»، أو أنه لم يتحقق فيه خلق، وإنما بمعنى أنه «ما هو بالشاهد على الخير ولا هو بالدال على الشر، وإنما هو عنهما وعن معيارهما بمعزل ومنأى، فلا يجوز الاحتكام إليهما في تقويمه. كذلك المؤرخ عليه الوقوف عن الخير والشر بمعزل فعلاوة على أن طلب الخير نفسه قد يتوسل إلى الشر - بالنظر إلى نسبية المفهومين وتلبّس أحدهما بالآخر ـ كذلك كثير هو الشر الذي أفاد. لقد كُتب التاريخ دوماً من جهة نظر الضعفاء، وهم مختفون وراء القيم، جاعلون لها تعلّة لهم وعاذرة إلى قلب القيم التاريخية، والآن، بعد أن انفضحت القيم التي اختفوا وراءها فأبانت الشفقة والرحمة عن تستر عن الضعف والوهن، وجب «قلب كتابة التاريخ أو على الأصح «قلب القلب»؛ أي وجب النظر إلى التشكل - المقلوب - للعناصر التي فعلت في التاريخ؛ أي حكايته لا من جهة نظر القس» و«المسيحي» - على نحو ما حدث قديماً ـ ولا من جهة الاشتراكي» و «الديمقراطي» - مثلما هو الأمر عليه حديثاً ـ وإنما من جهة نظر طراز الإنسان الوثني» و «الكلاسيكي والأرستقراطي»؛ أي من جهة نظر الانسان الأقوى) الذي ديدنه أن يسمو بالإنسان إلى أعلى عليين؛ نعني من جهة نظر كائنات شأنها أن تعلو على الخير والشر بما هي تضع نفسها فوق قيم تلك العدمية السوقة التي دأبها أن تنكر الوجود وقد أضناها العيش الوضيع وكلتها الحياة المعدمة إن أولئك الذين يقومون الوجود تقويماً ديونيسيوسياً هم المطالبون بأن يصيروا كَتَبَةَ التاريخ ومحرريه : يقولون للوجود وقد خبروا أوجهه القاسية الفظة المأساوية: ومع ذلك، فإن الوجود أمر مرغوب فيه مطلوب». وإن شعارهم هو: «نعم»، الكبرى للحياة وبملء فيهم وبأعلى ما أوتوا من القوة. وهم ما اعتبروا هذه الوجوه القصية القاسية ضرورية وحسب، وإنما هم عدوها مطلوبة لأنها الأقوى والأخصب والأحق الباعثة على الفعل، المحققة للإرادة في أبهى صورها. أولئك الذين ديدنهم أن يقبلوا على الحياة الإقبال الديونيسيوسي الفرح المرح الراقص بكل ما فيه من غير أن يقصوا منه طرفاً، أو يمجوا منه شيئاً، أو يعيبوه أو يستشنعوه.
ثانية قواعد كتابة التاريخ أنه تلزم كتابة تاريخ البشرية بعيداً. عن هاجس «العلمية» و«الموضوعية و النزاهة. إذ هذه مجرد «أقنعة» اختفى خلفها الوهن والضعف إنما الحياة خلاقة ،أوهام وإنما الإنسان مبدع أوهام. وإن العيش بحياد وصحو داخل الحياة أي بدون أوهام وسكر لهو الموت المحقق. فما كانت المسألة إذاً مسألة أن تكون لنا أوهام أو لا تكون، وإنما هي مسألة إما أن تكون أوهامنا قوية يكون من شأنها آنئذ أن ترفع حياتنا إلى أعلى
الدرجات، أو تكون شاحبة فيكون من أمرها حينئذ أن تصل حد الواقع الساذج المسلّم به المميت. فمن شأن الوعي - وضمنه الوعي التاريخي ـ أن لا يتقدم إلا بتوسل الأوهام. ولئن كان مستوى حسنا التاريخي متدنياً، إذا ما هو قورن بما كان لدى اليونان فذلك لأن أوهامنا تبدت أقل قوة ومتانة وأكثر ضعة وخسة ورذالة من أوهامهم ولا يمكن بأي حال الإسفاف بأوهامنا حد أن تكون علامة واقعية إنما حقيقة الواقعية الحقة أنها اقتدار على التوهم، وإنما الواقع الحق، لا ما وُجد وجوداً، وإنما هو ما خلق نفسه خلقاً؛ أي ما توهم فصار بذلك الأصل فيه وهماً. فقد تعين من ذلك أن همة الأجيال القادمة - المؤرخة الجدد ذوو الوعي التاريخي النبيل القوى - مطالبة بخلق الأوهام أو إعادة خلقها أو استئناف ،بدعها وذلك حتى تجنب البشرية الخطر الذي أحدثته المؤرخة المحدثة ؛ عنينا به خطر العيش على تاريخ بلا أوهام؛ أي خطر تسليم التاريخ إلى مقصلة العدم. ولأنه ما استقام وعي من غير وهم، فإن مهمة الأجيال القادمة إنما هي زرع إرادة الحياة من جديد.
ثالثاً؛ تلزم كتابة التاريخ بعيداً عن هاجس المعنى» و«الجملة» و«الكلية» و«الغائية». وهي الأمور التي فصلنا القول فيها في ما تقدم، ولسنا ذاكرين لها ههنا مخافة التكرار فلتطلب من مظانها.
مقابل هذه الجهة السلبية، قامت كتابة التاريخ ـ إيجاباً ـ عند نيتشه على ثلاث قواعد مضادة :
أولاها ؛ أنه ينبغي أن يكتب التاريخ من جهة إرادة القوة السليمة، لا من جهة إرادة القوة السقيمة ولذلك قال نيتشه يلزم قياس الأزمنة بحسب قواها الإيجابية». وقد اقتضى هذا الأمر من نيتشه أن يعمد إلى التاريخ، فيميز فيه بين عصور قوية دالت فيها الأمور لإرادة القوة وما زالت حتى شهدت على صعود حضاري، كما ترجمت عن ثقافة رفيعة راقية، وعصور موهنة وشت بحصول انحدار حضاري وإسفاف، ونمّت عن «ثقافة وضيعة». لنقل إن ههنا العصور على ضربين ضرب أول هو عصور هيمنة الأرستقراطية والنبالة، وضرب ثان هو عصور هيمنة العبودية والوضاعة، وإن ثمة عهود العلية وعهود السفلة، وأزمنة الملوكية وأزمنة السوقة. ولئن قورنت الأولى بالثانية ظهر أن البشرية عاشت أكثر حقبها على الحال الثانية، ولم تستفرغ هي الجهد للعيش على الحال الأولى، اللهم إلا في ما ندر.
ثانية قواعد كتابة التاريخ من جهة الإيجاب لا السلب؛ أن القاعدة الأولى لا تتحقق إلا بقاعدة ثانية تعد بالقياس إليها مكملة وضميمة. وهي أن التاريخ ما كان تاريخ شعوب وحشود وغوغاء وسفلة وإنما تاريخ أفراد واستثناءات وعبقريات وفرديات وقد كتب نيتشه يقول : ينبغي لي أن أصرف العناية إلى الاهتمام بمداخل التاريخ التي شهدت على انبعاث أناس عظام.
ثالثتها؛ لما كان التاريخ لا يعكس الحقيقة» ولا «الموضوعية» ولا «النزاهة»، وإنما يقوم على «المنظور والمعنى المضاف» و«الوهم»، صار للقوة الواهمة دور جوهري في كتابة التاريخ وهي قوة سماها نيتشه «القوة الشعرية، بما ترجم به عن معنى القوة «التخييلية أو «القوة التوهيمية» أو «القوة التشكيلية وهي قوة، بما كان من أمرها أنها مستأنسة للإنسان، صارت له متأصلة فيه عادة منشئية وملكة حتى لئن لم يشعر بها الشعور. كيف لا يكون الأمر كذلك، وقد صرنا لا يمكننا أن نفعل أي شيء إلا إن نحن رسمنا له - قبلاً - صورة مستقلة؟ بمعنى أن التصور صار لنا سابقاً عن الفعل رغم أننا لا ندري كيف تتصرف هذه الصورة في الفعل وتسري فيه وبه. ثم إن الفعل يبقى لنا دوماً شيئاً آخر يجري في خفية وطوية من وراء ظهرانينا، فلا نعلمه أو نتمثله؛ أي أننا لا ندرك دواعي فعلنا ولا فعلنا ذاته، فبالأحرى آثاره. تلك جهالات ثلاث دأبنا على صرفها عن أذهاننا بالإيقان الواهم بأضدادها ؛ أي بوهم الداعي ، ووهم «الفعل»، ووهم ذاك «الأثر». هو تاریخ البشر المألوف لنا الذي يصطدم إن هو حقق أمره بتاريخ مجهول لنا بما هو جماع هذه الجهالات الثلاث وليس يدعو نيتشه إلى الكف عن خلق الأوهام، وإنما هو يلتمس تحويلها إلى أوهام ،قوية لا ،ضعيفة، الشأن فيها أن تنم عن استقواء لا عن استضعاف. ذاك هو مفهوم الأرسومة عنده أو الخطاطة. وما كانت الأرسومة بالطريق الذي به نوضح الأمر وندلل عليه، وإنما هي القوة الفاعلة ذاتها. فهي رسم مثالي شأنه أن يسبق كل تصورنا، وهي نتاج تخييل، بينما التطور الحق يبقى مجهولاً لنا. وإنه لمحكوم علينا أن ننتج دوماً الأرسومات ونخط الخطاطات. وإن تطور التاريخ البشري لمجراه يسري سرياناً مجهولاً لنا، بل من وراء ظهورنا، غير أن هذه الصورة المثالية وتاريخها هي التي تبدو لنا التطور ذاته (...) والخطاطة التي ترتسم في كتابة التاريخ ترسمه بحيث يبدو بوصفه تتالي لحظات قوة ولحظات، وهن، يقودها مفهومان : مفهوم المثال (L'Ideal)، ومفهوم «الطراز» (Le Type)."
رابط تحميل الكتاب