معلومات عن الكتاب :
إسم الكتاب : دراسات ومباحث في تاريخ الأندلس؛ عصري الخلافة والطوائف.
المؤلف : د. أحمد الطاهري.
الناشر : مطبعة النجاح الجديدة - الدار البيضاء.
الطبعة : الأولى سنة 1993 م.
عدد الصفحات : 144.
صيغة الكتاب : PDFelement (البرامج المقترحة nitro pro, expert pdf).
مقتطف من الكتاب :
"من المتعارف عليه بين المهتمين بالتاريخ الاجتماعي أن طبقات العوام لم تنل كل ما تستحقه من الاهتمام. وذهبت بعض الدراسات إلى حد القول بتعذر تكوين تصور متكامل عن عديد من قضايا الماضي العربي الإسلامي دون استدراك ذلك. ولعل في العناية بأدب لحن العوام، جمعـا وتحقيقا، قراءة وتأملا، ما يساهم في رصد بعض مواطن الخلل في تصوراتنا تجاه الماضي اللغوي، وما يقدم عناصر جديدة لمراجعة أكثر إيجابية لدور العوام في الميدان اللغوي.
وفي استحضار الظروف الاجتماعية التي صاحبت بروز هذا النوع من التأليف، واستقراء التطورات اللاحقة، ما يساهم في فهم العوامل التي تحكمت في ميلاده خلال القرن الهجري الثاني وفي استمراريته بعدئذ وشموليته الجناحي دار الإسلام بالمشرق والمغرب. يلخص ابن قتيبة الارتباط الوثيق بين ظاهرة اللحن والتحولات العميقة والشاملة التي رافقت فترة التأسيس في رواية شهيرة وبالغة المعنى، نصها : دخل أعرابي السوق فسمعهم يلحنون، فقال : سبحان الله يلحنون ويربحون ونحن لا نلحن ولا نريح ": ولقد كان الزبيدي أكثر توضيحا لدور التطور المديني الهائل والتفاعل الاجتماعي والثقافي العميق في الفصل بين مرحلتين لغويتين بقوله : " لم تزل العرب في جاهليتها وصدر إسلامها تبرع في نطقها بالسجية وتتكلم على السليقية حتى فتحت المدائن ومصرت الأمصار ودونت الدواوين، فاختلط العربي بالنبطي والتقى الحجازي بالفارسي ودخل الدين أخلاط الامم وسواقط البلدان فوقع الخلل في الكلام وبدأ اللحن في السنة العوام ".
ما كان لهذا المنحى في بلاد المغرب إلا أن يستفحل، خصوصا لدى الأجيال اللاحقة، فلقد " فشا اللحن وكثر بعد اختلاط الناس وكثرتهم ونشوء الذرية على مافسد من نطقهم" على حد تعبير أحد اللغويين في حين يكشف ابن حيان عما آل إليه الوضع اللغوي بالأندلس في أواخر عصر الخلافة بالقول : " فامحى لذلك رسم الأدب بها، وغلب عليها العجمة وانقلب أهلها إلى العامية الصريحة ويبدو أن هذه الوضعية ازدادت رسوخا خلال القرن الخامس الهجري ورد في نص رسالة لأحد ملوك الطوائف إلى وزير مصري : " أن أهل مغربنا مرتضعون العجمة مدرعون الحشمة بمصاقبة الثغور ومجاذبة الألسن الثقيلة، وممازجة الأمزجة الكليلة وفي نص بالغ الدلالة لابن مكي الصقلي ما يكشف عن شمولية هذه الظاهرة لمناطق أخرى من بلاد المغرب وعن الدوافع التي حفزت أهل القلم بهذا الجناح من دار الإسلام إلى تكثيف التأليف، هم كذلك، في ميدان لحن العوام، إذ قال : " هجم الفساد على اللسان وخالطت الاساءة الاحسان ودخلت لغة العرب فلم تزل كل يوم تنهدم أركانها وتموت فرسانها حتى استبيح حريمها وهجن صميمها وعفت أثارها وطفئت أنوارها ".
أسفرت هذه المجهودات عن ثروة لغوية هامة في هذا المجال، وتقدم الفهارس الببليوغرافية وكتب التراجم والطبقات وغيرها من المصادر القديمة لوائح مستفيضة بعناوين كتب لحن العوام التي ألفت بالمشرق الاسلامي وبالمغرب والأندلس طوال عدة قرون. مما يؤكد أن قصور أهل القلم القدامى لم يكن كميا مع ذلك، فمن الملاحظ أن جزءا هاما من هذه الثروة مازال بين المفقود والمخطوط، ومازالت ملاحظة أحد الدارسين بأن " المتداول من كتب المتقدمين في لحن العوام قليل جدا بالنسبة لما وضع فيها سارية المفعول، رغم المجهودات القيمة لثلة من الدارسين خلال العقود الأخيرة على مستوى الدراسة والتحقيق.
تجردت هذه الكتب، كما يتضح من محتويات ما هو معروف منها، لمقاومة التطورات اللغوية المستجدة، والمساهمة مع بقية المجهودات اللغوية في وضع الخط الأحمر الفاصل بين لغة فصحى يراد لها الانضباط والثبات، وعاميات ما فتئت تتشكل وتتطور وتتداخل. ولم يدخر اللغويون وسعا في استنكار العاميات ووصفها بأرذل النعوت، فمن كونها كلاما جلفا مرذولا أو مبتذلا ذليلا إلى اعتبارها منكرا بشعا وبلغ الامر بالبعض إلى حد الاعتقاد بأن في العامية من العبارات ما يعرض مستعملها للكفر.
لم يقتصر الامر على ذلك، بل تجاوزه على غرار مواقف بقية أهل القلم إلى القذف والتحامل على العامة، واصفين إياهم ب الرعاع والهمج وب " الدهماء والسقاط و البطالين الأميين وغير ذلك من نعوت الاحتقار، متهمين إياهم بأفساد اللغة العربية ومعتبرين ما يختلفون فيه مع الفصحى خطأ ولحنا سواء كان ذلك على مستوى النطق أو الحركة أو البناء، وغير ذلك من أوجه الاختلاف.
مع ذلك، فمن الانصاف التذكير بأن ثمة فعاليات في الفكر العربي الإسلامي امتنعت عن التحامل وأقرت بالتطور اللغوي، ونظرت إلى كل من الفصحى والعامية باعتبارهما مجالا للمعرفة أكثر مما هما ميدانا للسجال. ففي المشرق، لم يتردد المقدسي في إبراز أهمية التعرف على الاختلافات اللغوية الاقليمية والاستيناس بتنوع الالفاظ والمصطلحات قصد توظيفها عند التجرد للتأليف كما دعى إلى ضرورة التدقيق في اختلاف المفاهيم وحدود معاني الالفاظ المستعملة بين العامة والخاصة وأوصى بالتزام لغة مفهومة " ليقرب الوصف إلى الإفهام ويـقـف عـلـيـه الخـاص والعام وآخذ على من سبقه من المؤلفين الاهتمام ب ماليس للعوام فيه فائدة وفي الأندلس لم يجد ابن حزم أي حرج في الإقرار بأن "من تدبر العبرانية والسرانية أيقن أن اختلافها إنما هو من... تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم ومع إبرازه لأهمية الأصول العربية للعـامـيـة الاندلسية، كشف عن بعض مظاهر تميزها وابتعادها عن أصولها " كلغة أخرى ولا فرق وإقرارا منه بأهمية العامية، اتخذ من ألفاظها مدخلا لكتابه في المنطق، وهي حسب الضبي طريقة لم يسلكها قبله أحد". وعلى غرار مواقف المقدسي السالف الذكر، تهجم على من سبقه من المترجمين لأنهم عمدوا إلى تعقيد الترجمة في إيرادها بألفاظ غير عامية مفسرا موقـ ذلك والسبب في إغماض الألفاظ وتوعيرها وتخشين المسلك نحوها، الشح بالعلم والضن به".
إن في هذه النصوص ما يلمس بعضا من جوهر المسألة اللغوية في الحضارة العربية الإسلامية الوسيطة. فمحاربة اللحن، والتحامل على العامية، والتصدي للقول بالتطور اللغوي، لم يكن كما ذهب معظم الدارسين لأسباب مرتبطة بقراءة النص القرآني فقط، ولكن بالخصوص لاقصاء العامة عن حلبة الثقافة والحفاظ على تحكم وسيطرة النخبة المثقفة من أهل القلم. مع ذلك فلا مناص من الإقرار بمساهمة كتب لحن العوام إلى جانب بقية المجهودات اللغوية في صيانة مكانة اللغة العربية الفصحى كلغة عالمة تسمو عن الاختلافات المحلية والاقليمية، وتساهم في ترسيخ الوحدة الثقافية والحضارية."
رابط التحميل