مقالة "فرانسوا فوريه ومحمد باهي حرمة، تقاطع مسارين" تأليف د. الطيب بياض - أونلاين بصيغة إلكترونية ONLINE PDF
معلومات عن المقالة :
العنوان : فرانسوا فوريه ومحمد باهي حرمة، تقاطع مسارين.
تأليف : د. الطيب بياض.
المصدر : التاريخ والهوية؛ الكتابة التاريخية بين الأرشيف والذاكرة وسؤال التعددية.. أعمال مهداة إلى جامع بيضا.
الناشر : الجمعية المغربية للبحث التاريخي.
صيغة المقالة : PDFelement (البرامج المقترحة nitro pro, expert pdf).
مقتطف من المقالة :
"فرانسوا فوريه المؤرخ المجدد
رأى فرانسوا فوريه النور خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، وتحديدا سنة 1927، داخل وسط ميسور اجتماعيا ، يساري الهوى سياسيا. عاش أطوار الحرب العالمية الثانية تلميذا في الثانوي، وفقد بسببها والدته، قبل أن يلتحق سنة حصوله على البكالوريا بحركة المقاومة ضد النازية، التي أعدمت في تلك السنة نفسها، أي 1944، المؤرخ الفذ مارك بلوك، صاحب كتاب "الهزيمة الغريبة وكأني به تسلم . منه مشعل استكمال تحرير فرنسا من النازية، وهو الذي اعتبر أن هذا التحرير لم يقدم للمواطن الفرنسي سوى خيارين على مستوى العرض السياسي؛ إما ديغولي أو شيوعي. ويرى أن الخيارين معا سقطا . نوع من التواطؤ في طمس حقيقة "الهزيمة الغريبة" لسنة 1940.
مع بداية مشوراه الجامعي كان على فرانسوا فوريه أن يواجه تحديا صحيا جديا من خلال مصارعة داء السل، قبل أن تنتظم حياته الجامعية بحصوله على إجازتين الأولى في الآداب والثانية في الحقوق، وهو يومها منخرط في الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي التحق به سنة 1949، وعضو نشيط في الاتحاد الوطني لطلبة فرنسا. فنسجت روابط علاقاته الإنسانية والعلمية داخل هذا المناخ الذي جمعه مع كل من مونا وجاك أوزوف (Mona et Jacques Ozouf وإيمانويل لوروا لدوري Emmanuel Le Roy Laurie) وطلبة آخرين وقتها انجذبوا إلى إرنست لابروس (Ernest Labrousse)، الذي كان يحلو لفرانسوا فوريه تسميته بـ"المؤرخ الماركسي الكبير"، والذي أنجز تحت إشرافه سنة 1952 رسالته لنيل دبلوم الدراسات العليا في موضوع "ليلة الرابع من غشت ". وتقاسم معه مفهوم الحتمية التاريخية لمدة طويلة، قبل أن يتخلص منه تدريجيا، إثر فترة نضج في التعاطي مع مؤلفات كارل ماركس، بعد أن صار باحثا متضلعا في الماركسية (marxologue) ، وليس مجرد ماركسي بالمفهوم الضيق للمعنى، على حد تعبير جوريس ألريك). فأدرك أن ما كان يشده إلى الماركسية بالأساس يكمن في روحها الجدلية، التي تتيح الفهم والتحليل بنفس ديالكتيكي، أسعفه كثيرا في مساره كمؤرخ مثقف ومجدد سواء خلال فترة التبريز، أو زمن ميله إلى المنهج الحولياتي الذي قربه من فرناند بروديل (Fernand Braudel)، مما مكنه من دخول الشعبة السادسة في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا أواسط الخمسينيات من القرن الماضي بعد نفور سريع من مهنة التدريس.
لم يكن فرانسوا فوريه قارئا نهما لأعمال كارل ماركس فحسب، بل لفكر ألكسيس دوتوكفيل (Alexis De Tocqueville) أيضا، وكان احتكاكه القوي بأطروحات هذا الأخير سببا ليس فقط في الكثير من المراجعات النقدية للمقاربات الماركسية في معالجة موضوع الثورة الفرنسية، بل في بلورة مشروعه الفكري الذي وسم العشرين سنة الأخيرة من حياته جسد نموذج المؤرخ المثقف المنشغل بقضايا عصره، فلم ينتح عن مغادرته للحزب الشيوعي أي تخل عن انخراطه وتفاعله مع ما يخترق زمنه من تعقيدات محلية ودولية، رغم توديعه للنضال السياسي الحزبي المباشر. حيث وجد البديل في تجربته الصحفية في الأوبسرفاتور، التي أتاحت له فرصة الكتابة بالشكل الذي يروقه معرفيا ويعبر عن قناعاته مبدئيا ونضاليا. ربما كان في تفاعله وتضامنه مع حرب تحرير الجزائر أسطع تعبير عن الالتزام الأخلاقي والعلمي أو التاريخي بمفهومه العام، ومعانقته لقضية كان يستعصي معها الحياد.
أسعفته قراءاته المتعددة لمتون تنتمي إلى مجالات معرفية متعددة في التناول النقدي للكثير من الاتجاهات والمقاربات التي كانت سائدة في عصره، فلم يتردد في تفنيد أطروحات البنيوية ودحض ما اعتبره مزاعم علمية، ورأى في الأنثروبولوجيا الأوروبية نوعا من المزوشية إثر تململ الهامش انتقاما من ماض استعماري دفعت أوروبا ثمنه بفقدانها لمركزيتها.
بيد أن مطرقة التهشيم الحقيقية هي تلك التي أنزلها على من أسماهم بـ"ماركسيي الثورة الفرنسية"، من خلال مقاله النقدي الحاد الذي نعت فيه أطروحاتهم بتعاليم مسيحية للثورة الفرنسية). داعيا إياهم إلى التخلص من عمى الألوان الذي جعلهم ينظرون إلى الثورة الفرنسية بمنظار الثورة البلشفية، موردا التناقضات التي اخترقت الطرح البلشفي مبكرا بين لينين وتروتسكي، وانزياحه عن الفهم الماركسي، والأدهى في نظره ان يجري اسقاط هذه المقاربة على سياق سابق بحوالي قرن وربع ومختلف تماما عن نظيره الروسي.
لم تكن هذه المعركة ذات الطبيعة الابستمولوجية سهلة، ذلك أن طرحه المجدد، وما حمله من تصحيح للفهم والمنهج، وضعه في مواجهة المقاربة "البلشفية" لكل من ألبير ماتيز (Albert Mathiez) وألبير سوبول (Albert Soboul) وميشيل فوفيل Michel) (Vovelle، في دراستهم للثورة الفرنسية. فنقد طرحهم كان بالنسبة لكثير من القراء بمثابة مساس بمقدس ما، في زمن لم يكن الرأي العام الفرنسي ليقبل بمن "يتطاول على مجد وطهرانية ثورته". ويعترف فرانسوا فوريه أنه مدين في توفير شروط تلك الجرأة في الطرح للحماية التي كان يوفرها له فرناند بروديل في الشعبة السادسة بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا، ولأعضاء هيئة تحرير مجلة الحوليات الذين عملوا على نشر مقاله النقدي الحاد في وقت كان فيه موضوع الثورة الفرنسية يدخل ضمن الطابوهات.
ولج فرنسوا فوريه لُج هذا العراك الفكري بالتدرج، بعد أن مهد له بكتاب مشترك مع دوني ريشيه (Denis Richet) منذ أواسط ستينيات القرن الماضي). وذلك قبل أن يخرج للمواجهة والسعي لهدم الأسس التي قامت عليها القراءات السابقة للثورة الفرنسية، ويقدم عناصر تحليل جديدة بعيدا عن منطق الحتمية التاريخية وإسقاط أدوات تحليل الثورة البلشفية في مقاله السالف الذكر بمجلة الحوليات، ليعمق هذا المنحى في الفهم ويدققه أكثر في باقي أعماله حول الموضوع، التي خصص لها حيزا كبيرا من أبحاثه، التي أهلته لينحت اسمه ليس فقط كأحد المتخصصين في موضوع الثورة الفرنسية، بل وهذا هو الأساس، كأول من تجرأ بشكل علمي على التعامل مع إنتاج المؤرخين السابقين حولها برؤية نقدية هزت المسلمات واليقينيات والحتميات، ورامت بناء فهم جديد لموضوع بالغ الحساسية في وجدان الفرنسيين، إلى جانب رؤيته النقدية للانزياح "التحريفي" الذي عرفته الشيوعية."
رابط التحميل