رواية اليتيم - تأليف عبد الله العروي - أونلاين بصيغة إلكترونية ONLINE PDF
معلومات عن الكتاب :
إسم الكتاب : اليتيم.
تأليف : عبد الله العروي.
الناشر : المركز الثقافي العربي.
صيغة الكتاب : PDFelement (البرامج المقترحة nitro pro, expert pdf).
مقتطف من الكتاب :
"انتبهت اليوم على الساعة العاشرة ككل يوم، سوى يوم الأحد. لاحظت أن شيئاً غير عادي يخيم على الغرفة. قمت وفتحت النافذة المطلة على الشارع ومقهى المارنيان فرأيت أن المصابيح مضاءة وأن الناس يمشون ببطء ملفوفين في معاطف وجلاليب صوفية. الجو مظلم، ليس قاتماً، بل مظلم والساعة العاشرة. أحببت دائما جو نونبر السماء المبلدة بالغيوم الغربي الذي يهب بلطف اللون المائل إلى الرمادي، لكن جو اليوم، ليس رمادياً، إنه مظلم كأن نسراً من النسور العظام غطى بأجنحته المدينة وحجب عنها النور.
ليس اليوم كالأيام السابقة ونفسي ليست اليوم كما كانت أمس وأمس الأمس. لبست صدرية بياقة وجاكتة جلدية وسروال ملف مفتول ونزلت لأرى المدينة في ثوبها الجديد. تجاوزت مقهى الواحات حيث أشرب عادة قهوة الصباح وتنكبت مطعم بريطانيا حيث أتناول وجباتي وتابعت الشارع الكبير قاصداً ملتقى المدائن. أمشي في أزقة البندقية (ما ذهبت قط إليها)، في ممرات تريستا (ما ذهبت قط إليها في شوارع جنيف (ما ذهبت قط إليها)، على كورنيش الإسكندرية (رأيتها في بياض الصيف فكانت غير الإسكندرية). ماذا حصل بين البارحة واليوم؟ لم أعد أحب هذه المدينة. كنت بين سكانها الوحيد الذي أحبها فعلاً. غيري يعيش فيها ويستبطئ يوم فراقه لها ورجوعه إلى منبع وجدانه. غيري يعرف أنه لن يغادرها أبداً ومع ذلك يرفض أن ينتمي إليها. وأنا أحببتها منذ طفولتي في صور متعاقبة: ساحة القنصلية، درب بوطويل مقاهي،فردان درب الإنجليز، سينما القوس، طريق المسبح البلدي كنت أقول إنها الإسكندرية وبيروت وأثينا في حيز واحد. أنا فيها وإليها إلى الأبد. اليوم أظلم الجو وحجب السماء وأصبحتُ مثل غيري أنسحب من البيضاء والتجئ إلى شوارع تريستا وجنيف. أتلو رغماً عني شطر بيت أعجزني معناه : ومبلغ نفس عذرها مثل منجح. لا أتذكر صدر البيت فيغيب عني معناه الحقيقي وأطبقه على نفسي بدون مبرر. ممن سمعته؟ أين قرأته؟ نداء؟ انکشاف؟ والأسطوانة تدور وتدور وتدور... مثل منجح... مثل منجح..
كسفت الشمس في عهد النبي فقال الناس حلت الساعة. سهیر، سلمی،آمال،نعمان،معن، عدي. أجوب الشوارع أترنم بأسماء لم يعد لها مسمى. أستشعر اليوم ما شعرت به قبل خمس سنوات وقبل ثلاث سنوات حين ضاع الأمل وحكم القدر أن اليتيم يتيم أبد الدهر.
مقهى الفوكس على الساعة العاشرة والنصف. فارغ تقريباً إلا من الزبناء الذين لا يبرحونه واتخذوا منه مأوى ومنزلاً ومحل شغل: بائع اللحوم وموزع أوراق اليانصيب وبائع بطائق القمار على سباق الكلاب والمخترع ليس المخترع شخصية من شخصيات الإسكندرية أو أثينا أو نابولي، إنه شخصية بيضاوية، يملأ مقهى الفوكس بجداله الدائم مع الأميين والمثقفين، يتكلم في كل علم ويخطط في كناش أزرق آلات عجيبة، غائصة في أعماق البحار أو طائرة في الفضاء بلا محرك ولا سائق. يقول لطلبة المدارس الثانوية : قتلكم الشك لأنكم تعلمتم شذرات من الفيزياء والكيمياء وقانون كارنو، لكن اسألوا أساتذة الفلسفة: عن منبع القوانين الطبيعية الحواس أم العقل، الطبيعة أم الإنسان، إسألوهم عن نظرية كانط ونظرية الرازي. أنا أنطلق من عقل غير العقل الحالي، عقل السماء السابعة بل من عقل السماء الأولى القريبة من الباري من عقل فعال،متعال، صقيل، واع بذاته، فينقلب كل شيء : الماضي إلى مستقبل، الحديد إلى ذهب، الأسفل إلى فوق الثقل إلى خفة. يقول الشيخ ابن عربي إنه من غير المستحيل أن يخلق الإنسان إنساناً بلحمه ودمه، بحواسه وعضلاته ومفكرته. إفهموا هذه النقطة يفتح الله عليكم أبواب المعرفة النافعة ماذا يقول علماء اليوم؟ إن الكون بدأ كانفجار نووي وان أصداء ذلك الانفجار الأول ما زالت تسمع إلى الآن بعد ملايين السنين وان المادة ما زالت تنتشر في الفضاء بسرعة متزايدة. هل تتصورون هذا الانتشار اللامتناهي؟ هل تعقلونه؟ العلماء أنفسم لا يدعون أن هذا الاستنتاج معقول. أنا أقول إنه لا يتعلق بواقع الطبيعة ولكنه ناجم عن مستوى عقولنا الآن وما ندركه من الفضاء ومن الزمن. لو أدركنا الزمن بكيفية مختلفة لتوصلنا إلى نتيجة أخرى مثلنا مثل البعوضة.. طلب مني المخترع مراراً أن أقدمه إلى زملاء ليكتبوا عنه في صحفهم. وعدته ثم أخلفت فصد عني. واليوم أتساءل لماذا لم أفتح له أبواب الجريدة. كلامه معقول ولعله أدرك شيئاً. الواقع أنه درس العلوم ونبغ في الهندسة وعندما تقدم إلى الباكالوريا وعمره ستة عشر عاماً قال المعلقون إن الوطن لم ينجب تلميذاً أذكى منه منذ أن عرف العلم الحديث. ثم دارت الأيام وتحوّل من عالم إلى فيلسوف. لا أحد يرى نفسه مسؤولاً عن إجهاض هذا النبوغ، أن يتطور النبوغ إلى فلسفة والفلسفة إلى تبهلالت، شيء طبيعي عندنا، بل منا من يقول: من أين له ذلك؟ هذا بلاء! الشارع فارغ أمام مقهى الفوكس ولا زبون عند بائع الحليب والحلويات جنب صيدلية باب مراكش الريح تنفنف تحت أعمدة عمارة الفوكس وأسد المترو فوق الصيدلية يسمع صرصرة رنانة. لا أرى من مقعدي حانوت الكتاب المقدس المطل على الزنقة المؤدية إلى باب مراكش منذ أن عرفت الحانوت لم أر قط رجلاً دخل إليها أو سأل عما فيها. هكذا يكون الإيمان.. لماذا لم أكتب مقالاً تحت اسم مستعار بعنوان (علمنا وعلمهم). يقول البربهاري إن العلم حقيقة الخلق ينكشف عن وحي وما سواه صناعات نافعة فتقبل أو ضارة فترفض. ويقول التوحيدي إن العلوم نواميس الدنيا تدرك بالفحص العقلي وتتولد عنها صناعات كلها نافعة. علم البربهاري ثابت،جذاب علوم التوحيدي متغيرة ينفر منها أصحاب الصناعات الذين يريدون اقتصاد الوقت ويبحثون عن نواميس يتكسبون بها لدى الرفيع والوضيع. ويحرق التوحيدي مؤلفاته.. يا للخسارة !.. إمسح دموعك. لا تحزن على التوحيدي. أحرق كتبه بعد أن نسخت وبعد أن ذاع صيته في الأقطار. لولا ذلك لما سمعت باسمه. الذاكرة آفة. يمحى المسجل على شريط. ولا ينسى المخزون في الذهن. لا بد من حيلة. مع الإلكترونيات اليوم حتى قبل الإلكترونيات كانت حيل كثيرة يعرفها أجدادنا وآباؤنا لكني أرفضها. لماذا؟ لأني أحترم نفسي اليتيم يحترم نفسه، خاصة في الأيام المظلمة، عندما يفكر في تريستا وجنيف، اليتيم.."
رابط تحميل الكتاب
