معلومات عن الكتاب :
عنوان الكتاب : من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر.
المؤلف : د. طه عبد الرحمن.
الناشر : المؤسسة العربية للفكر والإبداع.
صيغة الكتاب : PDFelement (البرامج المقترحة nitro pro, expert pdf).
مقتطف من الكتاب :
"فقه الفلسفة
لذلك، أخذتُ على نفسي أن أضع بعض أصول هذا العلم، مؤملا فتح الطريق لغيري من الدارسين ولمن شغَفَه حب الفلسفة، حتى يواصلوا هذا التأسيس والبناء على هذه الأصول، لأن مثل هذا العلم أوسع من أن تحيط به جهود باحث واحد، ولا حتى جهود الجيل الواحد من الباحثين؛ واستقر رأيي على أن أقدم الاشتغال بفرع «فقه الفلسفة» من هذا العلم على الاشتغال بفرع «فهم الفلسفة»، وذلك لسببين اثنين:
أحدهما، أن فقه الفلسفة يدور على الجانب التقني من الفلسفة، متمثلا في آليات النظر وكيفيات العمل؛ ولا شك أن الإحاطة بهذا الجانب تورّث مهارة صناعية لا تُورّثها الإحاطة بالجانب المضموني الذي يدور عليه فهم الفلسفة»؛ فكان همّي الأول هو أن يكتسب المتفلسف هذه القدرة الصناعية؛ فلو فرضنا أن المتفلسف أحاط علما بظروف إنتاج نص فلسفي مخصوص، ولكنه لم يُحط علما بأدوات إنتاج هذا النص، فيبعد أن يقدر على ما يقدر عليه لو أنه تمكن من ناصية هذه الأدوات، مع وجود جهله بظروف الإنتاج.
والسبب الثاني، أن مقتضى فقه الفلسفة يناسب خصوصية المجال التداولي الإسلامي؛ ذلك أنه لا شيء من المعرفة في هذا المجال، كما تقدم بيانه إلا ويوزن بميزان العمل، بحيث لا يُعتد بالعلم الذي لا يُستعمل أو لا يورّث عملا؛ والتقنية الفلسفية التي يختص فقه الفلسفة ببحثها إنما هي عبارة عن طرائق تطبيقية؛ وهذا الجانب التطبيقي يوافق، بالذات، التوجه العملي العام للمجال التداولي الإسلامي؛ فكان همي الثاني هو أن يستخدم المتفلسف هذه التقنية الفلسفية المناسبة في بناء فلسفة إسلامية عربية حقيقية، أي فلسفة تكون ظروف وأدوات إنتاجها منطبعة بالخصوصية العملية للمجال التداولي الإسلامي العربي.
وعلى هذا، يكون غرضي من الاشتغال بفقه الفلسفة غرضين اثنين:
أولهما، كشف أسرار التقنية في القول الفلسفي والفعل الفلسفي المعهودين؛ واضح أن هذا الكشف يقتضي، قبل المضي فيه، تحديد «مفهوم الفلسفة»، فكان أن وضعتُ المسلمة التالية، وهي: «أن الفلسفة، قولا كانت أو فعلا، لا تنفك تتأثر بمقومات المجال التداولي للفيلسوف»، وأسميها مسلَّمة تداولية الفلسفة»؛ فلا تزال أقوال الفيلسوف وأفعاله تستوفي مقتضيات هذا المجال، حتى ولو بدا عليها ظاهر مخالفة بعضها، لأن مراده بهذه المخالفة ليس نبذ هذه المقتضيات ولا كسر هذا المجال، وإنما هو تجديد هذا العنصر التداولي أو ذاك، تقوية لروح التواصل في هذا المجال المشترك؛ والداعي إلى اختياري لهذه المسلّمة دون غيرها هو أن الوفاء بالمقتضيات التداولية هو وحده الذي يُمكّن الفيلسوف من إقامة أسباب التواصل بينه وبين غيره من أفراد هذا المجال، فضلا عن أنه بإمكانه استثمار دلالات وإشارات هذه المقتضيات التداولية في بناء فکره و ترسيخه.
والغرض الثاني، هو التوسل بهذه التقنية الفلسفية غير المعهودة في إنشاء فلسفة إسلامية؛ واضح أيضا أن هذا التوسل يقتضي، قبل الشروع فيه، تحديد مفهوم الفلسفة الإسلامية»، فكان أن وضعتُ المسلمة التالية، وهي: «أنه ينبغي للفلسفة الإسلامية أن تتوسل بهذه الآليات المستنبطة، منطلقةً، في صوغ مقاصدها ودعاويها وإشكالاتها، من نقد الواقع العالمي الذي تأسس على فلسفة غير إسلامية»؛ وأسميها مسلمة نقدية الفلسفة الإسلامية»؛ والداعي إلى اختياري لهذه المسلّمة دون سواها هو أن هذه التقنية الفلسفية ككل التقنيات تحظى، من ذاتها، بشيء من الحياد، إذ يمكن أن يوظفها الفيلسوف في بناء أي فكر فلسفي شاء، في حين أن فائدتها بالنسبة لي، ها هنا، هي، على التعيين، أن أستخدمها في إنشاء فلسفة ذات طابع إسلامي تجمع إلى راهنية مضمونها جدلية منهجها.
وهيهات أن أُوفي هذين الغرضين حقهما ولو أنسئ في عمري؛ وعندئذ، لم يكن لي مفر من أن أكتفي بشواهد مخصوصة على إمكان تحقيق الغرضين، فأصوغ نماذج معدودة من التقنية الفلسفية وأبني بواسطتها نماذج محدودة من الفلسفة الإسلامية؛ لكن، على الرغم من أن بلوغ هذين الهدفين، على تمامهما يحتاج إلى تعاضد جهود الكثيرين وتواصلها لزمن غير مسمّى، فإن المسلَّمتين المذكورتين اللتين انبنى عليهما هذان الغرضان، وهما: مسلَّمة تداولية (الفلسفة» و«مسلمة نقدية الفلسفة الإسلامية»، تفيدان في تكوين تصور مفصل لكيفيات تحقيقها."
رابط تحميل الكتاب